وإليك الجواب من كتابي لرسالة الماجستير ( مذاهب الفقهاء في تفسير آيات الأحكام في سورة البقرة )
اختلف أهل العلم- رحمهم الله- في هذه المسألة على قولين.
القول الأول: من أفطر لمرض لا يرجى برؤه، أو أفطر لكبر سنه، فله أن يفطر وعليه الفدية، وهي الإطعام عن كل يوم مسكيناً. وهو مذهب جمهور أهل العلم- رحمهم الله- من الحنفية، والشافعية، والحنابلة([1]).
القول الثاني: أنه لا تجب الفدية على من أفطر رمضان لكبر، أو لمريض لا يرجى برؤه؛ ولكن يستحب له أن يفدي([2]). وهذا مذهب المالكية([3])، وقول للشافعي([4]).
استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
(1) قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ([5]).
قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يطيقان الصوم فيطعمان عن كل يوم مسكيناً([6]).
(2) قد أطعم أنس بن مالك- t- بعد ما كبر عاماً، أو عامين كل يوم مسكيناً، خبزاً ولحماً، وأفطر([7]).
(3) أنّ هذا قول جمع من الصحابة؛ كعلي، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس وغيرهم- y- ولم يعلم لهم مخالف؛ فكان كالإجماع([8]).
واستدل المالكية على مذهبهم بما يأتي:
(1) أن الله تعالى، إنما أوجب الفدية قبل النسخ على المطيقين دون غيرهم، وخيّرهم فيه بين أن يصوموا بقوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ)، ثم نسخ ذلك وألزمهم الصوم حتمًا، وسكت عمّن لا يطيق، فلم يذكره فى الآية، فصار فرض الصيام زائلاً عنهم؛ كما زال فرض الزكاة والحج عن المعدمين الذين لا يجدون إليها سبيلاً([9]).
وأجيب عن هذا الاستدلال: بأن قياس الصيام على الزكاة والحج قياس مع الفارق؛ لأنّ الكتاب والسنة فرقا بينهما، وذلك أنّ الله تعالى جعل من الصوم بدلاً أوجبه على كلّ من حيل بينه وبين الصيام وهو الفدية، كما جعل التيمم بدلاً من الطهور واجبًا على كلّ من أعوزه الماء، وكما جعل الإيماء بدلاً من الركوع والسجود لمن لا يقدر عليهما، ولم يجعل من الزكاة والحج بدلاً لمن لا يقدر عليهما([10]).
(2) روى عبد الرحمن بن أبي عمران، أنه سأل القاسم عمن أدركه الكبر وعجز عن الصوم، فقال: لا صيام ولا فدية([11]).
الترجيح:
الذي يظهر لي- والله أعلم- هو قول من قال إنّ الفدية غير واجبة على من لا يطيق الصيام؛ وذلك لما يأتي:
1- لأنّ الله تعالى لم يوجب الصيام على من لا يطيقه، فإنّه لم يوجب فرضاً إلاّ على من أطاقه، والعاجز عن الصوم كالعاجز عن القيام في الصلاة.
2- وأمّا الفدية فلم تجب بكتاب مجتمع على تأويله، ولا سنة يفقهها من تجب الحجة بفقهه، ولا إجماع في ذلك عن الصحابة ولا عن من بعدهم، والفرائض لا تجب إلاّ من هذه الوجوه، والذمة بريئة.
3- والواجب أن لا يُوجَب فيها شيء إلاّ بدليل لا تنازع فيه، والاختلاف عن السلف في إيجاب الفدية موجود، والروايات في ذلك عن بن عباس مختلفة، وحديث علي t لا يصح عنه، وحديث أنس بن مالك t يحتمل أن يكون طعامه عن نفسه تبرّعاً وتطوُّعاً، وهو الظاهر في الأخبار عنه في ذلك([12]).
مسألة: مقدار ما يدفع من الفدية لكل مسكين
اختلف أهل العلم- رحمهم الله- في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يخرج عن كلّ يوم مُدّاً من قوت أهل البلد سواءً كان بُرّاً أم شعيراً أو غيرهما. وهو مذهب المالكية([13])، والشافعية([14]).
القول الثاني: يخرج عن كلّ يوم نصف صاع من البر، أو يخرج صاعاً من غير البر؛ كالتمر والشعير. وهذا مذهب الحنفية([15])، والحنابلة([16]).
استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
(1) عن أبي هريرة t، قال: "من أدركه الكبر فلم يستطع صيام رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح"([17]).
(2) وقال ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: "إذا ضعف عن الصوم أطعم عن كل يوم مدّا"([18]).
(4) عن عطاء بن أبى رباح، أنه سمع أبا هريرة t يقول: "من أدركه الكبر فلم يستطع صيام شهر رمضان فعليه لكل يوم مدٌّ من قمح"([19]).
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلـي:
(1) عن أبي سعيد الخدري t قال: أمرنا رسول الله e أن نخرج في زكاة الفطر صاعاً من تمر, أو صاعاً من طعام, ثم إنّ معاوية t قال: أرى أنّ مدّاً من هذه عن مدين من غيرها. قال أبو سعيد: فأمّا أنا فلا أزال أخرجها كما أخرجها رسول الله e([20]).
(2) عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه قال: "زكاة الفطر صاعاً من تمر, وإنّ مدّاً من هذه- يعني الحنطة- عن مدين"([21]).
(3) عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: "أمر النبي e بزكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير". قال عبد الله t: "فجعل الناس عدله مدين من حنطة"([22]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
([1]) الإقناع؛ للحجاوي (1/306)، وأخصر المختصرات (ص: 144).
([2]) وما ذكر من استحباب الإطعام، ظاهر المدونة خلافه، ونصها: (لا فدية) إلاّ أنّ المدونة حملت على أنّه لا يجب الإطعام، فلا ينافي ندبه. الثمر الداني (ص: 301).
([3]) الفواكه الدواني (2/712)، وحاشية الخرشي على خليل (6/499).
([4]) المجموع (6/258).
([5]) سورة البقرة (آية: 184).
([6]) أخرجه البخاري في صحيحه (6/30)، كتاب بدء الوحي، باب قوله: ﴿أياما معدوادات فمن كان منكم مريضا﴾، ح (4504).
([7]) أخرجه البخاري في صحيحه (6/30)، كتاب بدء الوحي، باب قوله : ﴿أياما معدوادات فمن كان منكم مريضا﴾
([8]) الاستذكار؛ لابن عبد البر (3/325)، وعمدة القاري (16/473).
([9]) الاستذكار؛ لابن عبد البر (3/326)، وشرح صحيح البخاري؛ لابن بطال (4/93).
([10]) شرح صحيح البخاري؛ لابن بطال (4/93).
([11]) لم أجده في شيء من كتب الحديث، وإنما يذكره الفقهاء في كتبهم.
([12]) الاستذكار؛ لابن عبد البر (3/326).
([13]) الاستذكار (3/359).
([14]) الحاوي الكبير (3/1017)، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (5/400).
([15]) مختصر اختلاف العلماء؛ للطحاوي (2/18).
([16]) الروض المربع (1/59)، ودليل الطالب (ص:91).
([17]) أخرجه الدارقطني في سننه (2/208)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/271).
([18]) أخرجه الدارقطني في سننه (4/164).
([19]) أخرجه الدارقطني في سننه (3/200)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/271).
([20]) أخرجه البخاري (2/548)، كتاب الزكاة، باب صدقة الفطر صاع من طعام، ح (1437) واللفظ له، ومسلم (2/678)، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، ح (984).
([21]) أخرجه البخاري (2/547)، كتاب الزكاة، باب فرض صدقة الفطر، ح (1432)، ومسلم (2/677)، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، ح (984).
([22]) أخرجه البخاري في صحيحه (2/161)، كتاب صدقة الفطر، باب صدقة الفطر صاع من تمر، ح (1507)، ومسلم في صحيحه (3/68)، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، ح (2327)، واللفظ للبخاري