قضايا الشباب مناقشة الشيخ بما يخص قضايا ومشاكل الشباب في المجتمع وطلاب المدارس والجامعات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-23-2008, 06:41 PM   #1
قبورنا تبنا ونحن ماتبنا
عضــو فعــــــال
 
تاريخ التسجيل: Jun 2008
المشاركات: 12
افتراضي مامدى صحت هذه القصه؟؟

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كيف حالك ياشيخ؟ أن شاء الله بخير

ابسألك عن مدى صحة هذي القصه
وهل يجوز نشرها لأتي بحطها بالجوال على شكل ملاحظات وانشرها


قصة يوسف بن راحيل عليه السلام

ذكر ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل فمن ذلك :قصة يوسف بن راحيل عليه السلام

وقد أنزل الله عز وجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم ، ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والأمر الحكيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : " الر تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين "

قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة ، فمن أراد تحقيقه فلينظره ثم ، وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير ونحن نذكر هاهنا نبذاً مما هناك على وجه الإيجاز والنجاز

وجملة القول في هذا المقام : أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم ، بلسان عربي فصيح ، بين واضح جلي ، يفهمه كل عاقل ذكي زكي ، فهو أشرف كتاب نزل من السماء ، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق في أشرف زمان ومكان ، بأفصح لغة وأظهر بيان

فإن كان السياق في الأخبار الماضية أو الآتية ذكر أحسنها وأبينها وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه ، ودمغ الباطل وزيفه ورده

وإن كان في الأوامر والنواهي فأعدل الشرائع وأوضح المناهج ، وأبين حكماً وأعدل حكماً فهو كما قال تعالى : " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا "

يعني صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأوامر والنواهي

ولهذا قال تعالى : " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين " أي بالنسبة إلى ما أوحي إليك فيه

كما قال تعالى : " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور "

وقال تعالى : ‌" كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا * خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا "

يعني من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب فإنه يناله هذا الوعيد كما قال في الحديث المروي في المسند و الترمذي عن أمير المؤمنين علي ، مرفوعاً وموقوفاً : " من ابتغى الهدى في غيره أضله الله "

وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا هشام ، أنبأنا خالد عن الشعبي عن جابر : أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال : فغضب وقال : " أتتهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفس بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني " إسناد صحيح

ورواه أحمد من وجه آخر عن عمر وفيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنك حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين "

وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف وفي بعضها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته : " أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي اختصاراً ، وقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ، ولم يغرنكم المتهوكون " ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفاً حرفاً

" إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين * قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم "

قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولداً ذكراً وسميناهم وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم ، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره ، وباقي إخوته لم يوح إليهم

وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول

ومن استدل على نبوتهم بقوله : " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " وزعم أن هؤلاء هم الأسباط فليس استدلاله بقوي ، لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجب فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم

ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين إخوته بالرسالة والنبوة أنه ما نص على واحد من إخوته سواه ، فدل على ما ذكرناه

ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد الرحمن ، عن عبد الله ابن دينار ، عن أبيه عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم "

انفرد به البخاري ، فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقد ذكرنا طرفه قي قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هنا ولله الحمد والمنة

قال المفسرون وغيرهم : رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم ، كأن أحد عشر كوكباً ، وهم إشارة إلى بقية إخوته ، والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه ، قد سجدوا له ، فهاله ذلك

فلما استيقظ قصها على أبيه ، فعرف أبوه أن سينال منزلة عالية ورفعة عضيمة في الدنيا والآخرة ، بحيث يخضع له أبوه وإخوته فيها ، فأمره بكتمانها وألا يقصها على إخوته ، كيلا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر ، وهذا يدل على ما ذكرناه

ولهذا جاء في بعض الآثار : استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها ، فإن كل ذي نعمة محسود

وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وإخوته معاً ، وهو غلط منهم

" وكذلك يجتبيك ربك " أي وكما أراك هذه الرؤيا العظيمة ، فإذا كتمتها " يجتبيك ربك " أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة " ويعلمك من تأويل الأحاديث " أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك

" ويتم نعمته عليك " أي بالوحي إليك " وعلى آل يعقوب " أي بسببك ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة " كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق " أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة ، كما أعطاها أباك يعقوب ، وجدك إسحاق ، ووالد جدك إبراهيم الخليل ، " إن ربك عليم حكيم " كما قال تعالى : " الله أعلم حيث يجعل رسالته

لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس أكرم ؟ قال : " يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله "

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما ، وأبو يعلى والبزار في مسنديهما ، من حديث الحكم بن ظهير - وقد ضعفه الأئمة - عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له : بستانة اليهودي ، فقال : يا محمد أخبرني عن الكوا كب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أساؤها ؟ قال : فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء ، ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها قال : فبعث إليه رسول الله فقال : " هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها " قال : نعم فقال : " هي جريان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكتفان ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفيلق ، والمصبح ، والضروح ، وذو الفرع ، والضياء ، والنور "

فقال اليهودي : أي والله إنها لأسماؤها وعند أبي يعلى : فلما قصها على أبيه قال : هذا أمر مشتت يجمعه الله ، والشمس أبوه والقمر أمه

" لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين "

ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم ، والدلالات المواعظ والبينات ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه - يعنون شقيقه لأمه بنيامين - أكثر منهم ، وهم عصبة أي جماعة يقولون : فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين " إن أبانا لفي ضلال مبين " أي بتقديمه حبهما علينا

ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف ، أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ، ليخلوا لهم وجه أبيهم : أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم ، وأضمروا التوبة بعد ذلك

فلما تمالئوا على ذلك وتوافقوا عليه : " قال قائل منهم " قال مجاهد : هو شمعون ، وقال السدي : هو يهوذا وقال قتادة ومحمد بن إسحاق : هو أكبرهم روبيل : " لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة " أي المارة من المسافرين " إن كنتم فاعلين " ما تقولون لا محالة ، فليكن هذا الذي أقول لكم فهو أقرب حالاً من قتله أو نفيه وتغريبه

فأجمعوا رأيهم على هذا ، فعند ذلك " قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون * قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون " طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف ، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعي معهم ، وأن يلعب وينبسط وقد أضمروا له ما الله به عليم

فأجابهم الشيخ ، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم : يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار ، ومع هذا أخشى أن تشغلوا في لعبكم وما أنتم فيه ، فيأتي الذئب فيأكله ، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه

" قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون " أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة ، إنا إذن لخاسرون ، أي عاجزون هالكون

وعند أهل الكتاب : أنه أرسله وراءهم يتبعهم ، فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم ، وهذا أيضاً من غلطهم وخطئهم في التعريب ، فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم فكيف يبعثه وحده

" فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون * وجاؤوا أباهم عشاء يبكون * قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون "

لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم ، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه ، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال ، وأجمعوا على إلقائه في غيابة الجب ، أي في قعره على راعونته ، وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها الماتح وهو الذي ينزل لميلأ الدلاء إذا قل الماء ، والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح

فلما ألقوه فيه ، أوحى الله إليه : أنه لا بد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها ، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا في حال أنت فيها عزيز ، وهم محتاجون إليك خائفون منك ، " وهم لا يشعرون "

قال مجاهد وقتادة : وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك وعن ابن عباس : " وهم لا يشعرون " أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يرفونك فيها ، رواه ابن جرير عنه

فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه ، أخذوا قميصه فلطخوه بشيء من دم ، ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون ، أي على أخيهم ولهذا قال بعض السلف : لا يغرنك بكاء المتظلم فرب ظالم وهو باك ! وذكر بكاء إخوة يوسف وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون ، أي في ظلمة الليل ، ليكون أمشى لغدرهم لا لعذرهم

" قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا " أي ثيابنا " فأكله الذئب " أي في غيبتنا عنه في استباقنا وقولهم : " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " أي ما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له ، ولو كنا غير متهمين عندك

فكيف وأنت تتهمنا في هذا ؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب ، وضمنا لك ألا يأكله لكثرتنا حوله ، فصرنا غير مصدقين عندك ، فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه

" وجاؤوا على قميصه بدم كذب " أي مكذوب مفتعل ، لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ، ليوهموه أنه أكله الذئب قالوا : ونسوا أن يحرقوه ، وآفة الكذب النسيان ! ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم ، فإنه كان يفهم عداوتهم له ، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم ، لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته ولما راودوه عن أخذه فبمجرد ما أخذوه أعدموه ، وغيبوه عن عينيه وجاءوا وهو يتباكون ، وعلى ما تمالئوا يتواطئون ولهذا : " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون "

وعند أهل الكتاب : أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأحذه من حيث لا يشعرون ويرده إلي أبيه ، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة فلما جاء روبيل آخر النهار ليخرج يوسف لم يجده ، فصاع وشق ثيابه ، وعمد أولئك إلى جدى فذبحوه ، ولطخوا من دمه جبة يوسف ، فلما علم يعقوب شق ثيابه ، ولبس مئزراً أسود وحزن على ابنه أياماً كثيرة ، وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير



" وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين * وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون * ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين "

يخبر الله تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب : أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به ، فجاءت سيارة ، أي مسافرون قال أهل الكتاب : كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم قاصدين ديار مصر من الشام ، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر ، فلما أدلى أحدهم دلوه تعلق فيه يوسف

فلما رآه ذلك الرجل " قال يا بشرى " أي يا بشارتي " هذا غلام وأسروه بضاعة " أي أوهموا أنه معهم غلام من جملة متجرهم " والله عليم بما يعملون " أي هو عالم بما تمالأ عليه إخوته ، وبما يسره واجدوه من أنه بضاعة لهم ، ومع هذا لا يغيره تعالى ، لما له في ذلك من الحكمة العظيمة والقدر السابق والرحمة بأهل مصر ، بما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق ، ثم بعد هذا يملكه أزمة الأمور وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم ، بما لا يحد ولا يوصف

ولما استشعر إخوة يوسف بأخذ السيارة له لحقوهم ، وقالوا هذا غلامنا أبق منا ، فاشتروه منهم بثمن بخس ، أي قليل نزر ، وقيل هو الزيف : " دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين "

قال ابن مسعود وابن عباس ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي : باعوه بعشرين درهماً اقتسموها درهمين وقال مجاهد : اثنان وعشرون درهماً وقال عكرمة ومحمد بن إسحاق : أربعون درهماً والله أعلم

" وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه " أي أحسني إليه " عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا " وهذا من لطف الله به ورحمته وإحسانه إليه ، بما يريد أن يؤهله له ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة

قالوا : وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها وهو الوزير بها ، الذي الخزائن مسلمة إليه قال ابن إسحاق : واسمه أطفير بن روحيب قال : وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد ، رجل من العماليق قال : واسم امرأة العزيز : راعيل بنت رماييل وقال غيره : كان اسمها زليخا والظاهر أنه لقبها وقيل فكا بنت ينوس ، رواه الثعلبي عن ابن هشام الرفاعي

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن السائب عن أبي صالح ، عن ابن عباس : كان اسم الذي باعه بمصر - يعني الذي جلبه إليها - مالك بن زعر بن نويت بن مديان بن إبراهيم والله أعلم

وقال ابن إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حيث قال لامرأته " أكرمي مثواه " والمرأة التي قالت لأبيه عن موسى : " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما

ثم قيل : اشتراه العزيز بعشرين ديناراً ، وقيل بوزنه مسكاً ووزنه حريراً ووزنه ورقاً والله أعلم

وقوله : " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض " أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه ، ويعتنيان به ، مكنا له في أرض مصر " ولنعلمه من تأويل الأحاديث " أي فهمها ، وتعبير الرؤيا من ذلك " والله غالب على أمره " أي إذا أراد شيئاً فإنه يقيض له أسباباً وأموراً لا يهتدى إليها العباد ولهذا قال تعالى : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون "

" ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين " فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد ، وهو حد الأربعين الذي يوحى الله فيه إلى عباده النبيين ، عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين

وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد : فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم الشعبي : هو الحلم وقال سعيد بن جبير : ثماني عشرة سنة وقال الضحاك : عشرون سنة ، وقال عكرمة : خمس وعشرون سنة وقال السدي : ثلاثون سنة وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ثلاتة وثلاثون سنة وقال الحسن : أربعون سنة ، ويشهد له قوله تعالى : " حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة "

" وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين "

يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه ، وهي في غاية الجمال والمال ، والمنصب والشباب ، وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه وتهيأت له وتصنعت ، ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها ، وهي مع هذا كله امرأة الوزير قال ابن إسحاق : وبنت أخت الملك الريان ابن الوليد صاحب مصر

وهذا كله من أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء ، إلا أنه نبي من سلالة الأنبياء ، فعصمه ربه عن الفحشاء ، وحماه عن مكر النساء ، فهو سيد السادة النجباء ، السبع الأتقياء ، المذكورين في الصحيحين عن خاتم الأنبياء ، في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ، ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله "

والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص ، فقال " معاذ الله إنه ربي " يعنى زوجها صاحب المنزل سيدي " أحسن مثواي " أي أحسن إلي وأكرم مقامي عنده " إنه لا يفلح الظالمون " وقد تكلمنا على قوله تعالى : " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " بما فيه كفاية ومقنع في التفسير

وأكثر أقوال المفسرين هاهنا متلقي من كتب أهل الكتاب ، فالإعراض عنه أولى بنا

والذي يجب أن يعتقد : أن الله تعالى عصمه وبرأه ، ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها ، ولهذا قال تعالى : " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين "

" واستبقا الباب " أي هرب منها طالباً الباب ليخرج منه فراراً منها فاتبعته في أثره " وألفيا " أي وجدا " سيدها " أي زوجها " لدى الباب " فبدرته بالكلام وحرضته عليه " قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم " اتهمته وهي المتهمة وبرأت عرضها ونزهت ساحتها ، فلهذا قال يوسف عليه السلام : " هي راودتني عن نفسي " احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة

" وشهد شاهد من أهلها " قيل كان صغيراً في المهد قاله ابن عباس ، وروى عن أبي هريرة وهلال بن يساف والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك ، واختاره ابن جرير ، وروى فيه حديثاً مرفوعاً عن ابن عباس ، ووقفه غيره عنه

وقيل كان رجلاً قريباً إلى وقطفير بعلها ، وقيل قريباً إليها ، وممن قال إنه كان رجلاً : ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وزيد بن أسلم

فقال : " إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين " أي لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه " وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " أي لأنه يكون قد هرب منها فاتبعته وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك ، وكذلك كان ولهذا قال تعالى : " فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم " أي هذا الذي جرى من مكركن ، أنت راودتيه عن نفسه ، ثم اتهمتيه بالباطل

ثم أضرب بعلها عن هذا صفحاً فقال : " يوسف أعرض عن هذا " أي لا تذكره لأحد ، لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن ، وأمرها بالإستغفار لذنبها الذي صدر منها والتوبة إلى ربها ، فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه

وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام ، إلا أنهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك ولهذا قال لها بعلها ، وعذرها من بعض الوجوه ، لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله ، إلا أنه عفيف نزيه برىء العرض سليم الناحية فقال : " استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين "

" وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين * قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم "

يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة ، من نساء الأمراء وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز وعيبها ، والتشنيع عليها في مراودتها فتاها ، وحبها الشديد له ، وهو لا يساوي هذا ، لأنه مولى من الموالي وليس مثله أهلا لهذا ولهذا قلن : " إنا لنراها في ضلال مبين " أي في وضعها الشيء في غير محله

" فلما سمعت بمكرهن " أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها ، والإشارة إليها بالعيب والمذمة بحب مولاها وعشق فتاها ، فأظهرن ذماً وهي معذورة في نفس الأمر ، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن ، وتبين أن هذا الفتي ليس كما حسبن ، ولا من قبيل ما لديهن فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها ، وأعتدت لهن ضيافة مثلهن ، وأحضرت جملة ذلك شيئاً مما يقطع بالسكاكين ، كالأترج ونحوه ، وآتت كل واحدة منهن سكيناً ، وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام ، وألبسته أحسن الثياب وهو في غاية طراوة الشباب وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة ، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة

" فلما رأينه أكبرنه " أي أعظمنه وأجللنه وهبنه ، وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم ، وبهرهن حسنه حتى اشتغلن عن أنفسهن ، وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين ولا يشعرن بالجراح " وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم "

وقد جاء في حديث الإسراء : " فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن " قال السهيلي وغيره من الأئمة : معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام ، لأن الله تعالى خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، فكان في غاية نهايات الحسن البشري ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه ، ويوسف كان على النصف من حسن آدم ولم يكن بينهما أحسن منهما ، كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام

قال ابن مسعود : وكان وجه يوسف مثل البرق ، وكانت إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه وقال غيره : كان في الغالب مبرقعاً لئلا يراه الناس ولهذا لما قام عذرن امرأة العزيز في محبتها لهذا المعني المذكور ، وجرى لهن وعليهن ما جرى من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين ، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته

" قالت فذلكن الذي لمتنني فيه " ثم مدحته بالعفة التامة فقالت : " ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " أي امتنع " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين "

وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته ، فأبي أشد الإباء ، ونأى لأنه من سلالة الأنبياء ، ودعا فقال في دعائه لرب العالمين : " رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين " يعنى إن وكلتني إلى نفسي ، فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف ، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله فأنا ضعيف إلا ما قويتني وعصمتني وحفظتني وحطتني بحولك وقوتك

ولهذا قال تعالى : " فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم * ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين * ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين * قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون * واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون * يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "

يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم ، أي ظهر لهم من الرأي بعد ما علموا براءة يوسف أن يسجنوه إلى وقت ، ليكون ذلك أقل لكلام الناس في تلك القضية ، وأحمد لأمرها ، وليظهروا أنه راودها عن نفسها فسجن بسببها ، فسجنوه ظلماً وعدواناً

وهذا مما قدر الله له ، ومن جملة ما عصمه به ، فإنه أبعد له عن معاشرتهن ومخالطتهم

ومن هاهنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي : أن من العصمة ألا تجد !

قال الله : " ودخل معه السجن فتيان " قيل : كان أحدهما ساقي الملك واسمه فيما قيل بنوا والآخر خبازه ، يعنى الذي يلي طعامه ، وهو الذي يقوله له الترك الجاشنكير واسمه فيما قيل مجلث وكان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما فلما رأيا يوسف في السجن أعجبتهما سمته وهديه ، ودله وطريقته ، وقوله وفعله ، وكثرة عبادته ربه ، وإحسانه إلى خلقه ، فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه

قال أهل التفسير : رأيا في ليلة واحدة أما الساقي فرأى كأن ثلاثة قضبان من حبلة وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب ، فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز ، وضواري الطيور تأكل من السلة الأعلى

فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرها لهما وقالا : " إنا نراك من المحسنين " فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها " قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما " قيل : معناه مهما رأيتما من حلم فإني أعبره لكم قبل وقوعه فيكون كما أقول وقيل معناه أني أخبركم بما يأتيكما من الطعام قبل مجيئه حلواً وحامضاً ، كما قال عيسى : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم "

وقال لهما : إن هذا من تعليم الله إياى ، لأني مؤمن به موحد له متبع ملة آبائي الكرام : إبراهيم الخليل ، وإسحاق ويعقوب " ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا " أي أن هدانا لهذا ، " وعلى الناس " أي بأن أمرنا أن ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه وهو في فطرهم مركوز ، وفي جبلتهم مغروز ، " ولكن أكثر الناس لا يشكرون "

ثم دعاهم إلى التوحيد وذم عبادة ما سوى الله عز وجل ، وصغر أمر الأوثان وحقرها ، وضعف أمرها فقال : " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله " أي المتصرف في خلقه الفعال لما يريد ، الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء " أمر أن لا تعبدوا إلا إياه " أي وحده لا شريك له و " ذلك الدين القيم " أي المستقيم والصراط القويم " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره

وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال ، لأن نفوسهما معظمة له ، منبعثة على تلقى ما يقول بالقبول ، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه

ثم لما قام بما وجب عليه وأرشد إلى ما أرشد إليه قال : " يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا " قالوا وهو الساقي " وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه " قالوا وهو الخباز " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان " أي وقع هذا لا محالة ، ووحب كونه على كل حالة ولهذا جاء في الحديث : " الرؤيا على رجل طائر على ما لم تعبر ، فإذا عبرت وقعت "

وقد روى عن ابن مسعود ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهما قالا : لم نر شيئاً ، فقال لهما : " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "

" وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين "

يخبر تعالى أن يوسف قال للذي ظنه ناجياً منهما وهو الساقي : " اذكرني عند ربك " يعنى اذكر أمري وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك وفي هذا دليل على جواز السعي في الأسباب ، ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب

وقوله : " فأنساه الشيطان ذكر ربه " أي فأنسى الناجي منهما الشيطان أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام قال مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد وهو الصواب ، وهو منصوص أهل الكتاب

" فلبثت " يوسف " في السجن بضع سنين " والبضع : ما بين الثلاث إلى التسع ، وقيل إلى السبع ، وقيل إلى الخمس ، وقيل ما دون العشرة : حكاها الثعلبي ، ويقال بضع نسوة وبضعة رجال

ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر قال وإنما يقال نيف وقال الله تعالى : " فلبث في السجن بضع سنين " وقال تعالى " في بضع سنين " وهذا رد لقوله

قال الفراء : ويقال بضعة عشر وبعضة وعشرون إلى التسعين ، ولا يقال : بضع ومائة ، وبضع وألف وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر ، فمنع أن يقال بضعة وعشرون إلى تسعين وفي الصحيح : " الإيمان بضع وستون شعبة " وفي رواية : " وسبعون شعبة ، وأعلاها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "

ومن قال إن الضمير في قوله : " فأنساه الشيطان ذكر ربه " عائد على يوسف فقد ضعف ما قاله ، وإن كان قد روى عن ابن عباس وعكرمة

والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه ، تفرد بإسناده إبراهيم ابن يزيد الخوري المكي وهو متروك

ومرسل الحسن وقتادة لا يقبل ، ولا هاهنا بطريق الأولى والأحرى والله أعلم

فأما قول ابن حبان في صحيحه عند ذكر السبب الذي من أجله لبث يوسف في السجن ما لبث : أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي ، حدثنا مسدد بن مسرهد ، حدثنا خالد بن عبد الله ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها " اذكرني عند ربك " ما لبث في السجن ما لبث ، ورحم الله لوطاً إن كان ليأوي إلى ركن شديد ، إذ قال لقومه : " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " ، قال : فما بعث الله نبياً بعده إلا في ثروة من قومه "

فإنه حديث منكر من هذا الوجه ومحمد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة وهذه اللفظة من أنكرها وأشدها والذي في الصحيحين يشهد بغلطها والله أعلم

" وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين * وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون * يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون * قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون "

هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الإحترام والإكرام ، وذلك أن ملك مصر ، وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن فاران بن عمرو ابن عملاق بن لاوذ ابن سام بن نوح ، رأي هذه الرؤيا

قال أهل الكتاب : رأى كأنه على حافة نهر ، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان ، فجعلن يرتعن في روضة هناك ، فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر ، فرتعن معهن ثم ملن عليهن فأكلنهن ، فاستيقظ مذعوراً ، ثم نام فرأي سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة ، وإذا سبع أخر دقاق يابسات فأكلنهن ، فاستيقظ مذعوراً

فلما قصها على ملئه وقومه لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها ، بل " قالوا أضغاث أحلام " أي أخلاط أحلام من الليل ، لعلها لا تعبير لها ، ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك ولهذا قالوا : " وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " فعند ذلك تذكر الناجي منهما ، الذي وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا ، وذلك عن تقدير الله عز وجل وله الحكمة في ذلك فلما سمع رؤيا الملك ، ورأى عجز الناس عن تعبيرها ، تذكر أمر يوسف ، وما كان أوصاه به من التذكار

ولهذا قال تعالى : " وقال الذي نجا منهما وادكر " أي تذكر " بعد أمة " أي بعد مدة من الزمان ، وهو بضع سنين وقرأ بعضهم كما حكى عن ابن عباس وعكرمة والضحاك : " وادكر بعد أمة " أي بعد نسيان وقرأها مجاهد : " بعد أمة " بإسكان الميم وهو النسيان أيضاً يقال أمه الرجل يأمه أمها وأمهاً إذا نسى قال الشاعر :

أمهت وكنت لا أنسى حديثاً كذلك الدهر يزرى بالعقول

فقال لقومه وللملك : " أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون " أي فأرسلوني إلى يوسف فجاءه فقال : " يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون "

وعند أهل الكتاب : أن الملك لما ذكره له الساقي ، استدعاه إلى حضرته ، وقص عليه ما رآه ففسره له وهذا غلط والصواب ما قصه الله في كتابه القرآن لا ما عربه هؤلاء الجهلة الثيران من فرى وهذيان

فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط ، ولا طلب الخروج سريعاً ، بل أجابهم إلى ما سألوه ، وعبر لهم ما كان من منام الملك ، الدال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبها سبع جدب " ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس " يعنى يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية " وفيه يعصرون " يعنى ما كانوا يعصرونه من الأقطاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها

فعبر لهم وعلى الخير دلهم ، وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجدبهم وما يفعلونه من ادخار حبوب سنى الخصب في السبع الأول في سنبله ، إلا ما يرصد بسبب الأكل ، ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية ، إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل ، وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم

" وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم * قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم "

لما أحاط الملك علماً بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام ، وتمام عقله ، ورأيه السديد وفهمه ، أمر بإحضاره إلى حضرته ، ليكون من جملة خاصته فلما جاءه الرسول بذلك ، أحب ألا يخرج حتى يتبين لكل أحد أنه حبس ظلماً وعدواناً ، وأنه برىء الساحة مما نسبوه إليه بهتاناً " قال ارجع إلى ربك " يعني الملك " فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم " قيل معناه : إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إلي ، أي فمر الملك فليسألهن : كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي ؟ وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد ؟

فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من الأمر ، وما كان منه من الأمر الحميد " قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء "

فعند ذلك " قالت امرأة العزيز " وهي زليخا " الآن حصحص الحق " أي ظهر وتبين ووضح ، والحق أحق أن يتبع " أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " أي فيما يقوله ، ومنه أنه برىء وأنه لم يراودني ، وأنه حبس ظلماً وعدواناً ، وزوراً وبهتاناً

وقوله : " ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين " قيل إنه من كلام يوسف ، أي إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب وقيل إنه من تمام كلام زليخا ، أي إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر ، وإنما كان مراودة لم يقع معها فعل فاحشة

وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الأول

" وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم " قيل إنه من كلام يوسف ، وقيل من كلام زليخا وهو مفرع على القولين الأولين وكونه من تمام كلام زليخا أظهر وأنسب وأقوى والله أعلم

* * *

" وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم * وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين * ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون "

لما ظهر للملك براءة عرضه ، ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه " قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي " أي أجعله من خاصتي ، ومن أكابر دولتي ، ومن أعيان حاشيتي ، فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله " قال إنك اليوم لدينا مكين أمين " أي ذو مكانة وأمانة

" قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضي سبع سني الخصب ، لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه ، من الإحتياط لهم والرفق بهم ، وأخبر الملك أنه حفيظ ، أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه ، عليم بضبط الأشياء ومصالح الأهراء

وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة

وعند أهل الكتاب : أن فرعون عظم يوسف عليه السلام جداً وسلطه على جميع أرض مصر ، وألبسه خاتمه ، وألبسه الحرير وطوقه الذهب وحمله على مركبه الثاني ، ونودي بين يديه أنت رب ومسلط ، وقال له : لست أعظم منك إلا بالكرسي

قالوا : وكان يوسف إذا ذاك ابن ثلاثين سنة ، وزوجه امرأة عظيمة الشأن ، وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته وولاها يوسف

وقيل : إنه لما مات زوجه امرأته زليخا فوجدها عذراء ، لأن زوجها كان لا يأتي النساء ، فولدت ليوسف عليه السلام رجلين هما : أفرايم ومنسا قال : واستوثق ليوسف ملك مصر ، وعمل فيهم بالعدل فأحبه الرجال والنساء

حكي أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة ، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة ، وفي كل ذلك يجاوبه بكل لغة منها ، فأعجبه ذلك مع حداثة سنة والله أعلم

قال الله تعالى : " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء " أي بعد السجن والضيق والحصر ، صار مطلق الركاب

بديار مصر ، " يتبوأ منها حيث يشاء " أي أين شاء حل منها مكرماً محسوداً معظماً

" نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " من أي هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل

ولهذا قال : " ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون "

ويقال : إن قطفير زوج زليخا كان قد مات ، فولاه الملك مكانه وزوجه امرأته زليخا ، فكان وزير صدق

وذكر محمد بن إسحاق أن صاحب مصر - الوليد بن الريان - أسلم على يدي يوسف عليه السلام فالله أعلم وقد قال بعضهم :

وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به غــايــة الحزن

فلا تيأسن ، فالله ملك يوسفـا خزائنه بعد الخلاص من السجن

" وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون * وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون "

يخبر تعالى عن قدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعاماً ، وذلك بعد إتيان سني الجدب وعمومها على سائر العباد والبلاد

وكان يوسف عليه السلام إذا ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية ديناً ودنيا فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه ، لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة ، فلهذا عرفهم وهم له منكرون

وعند أهل الكتاب : أنهم لما قدموا عليه سجدوا له فعرفهم ، وأراد ألا يعرفوه فأغلظ لهم في القول ، وقال : أنتم جواسيس ، جئتم لنا لتأخذوا خير بلادي فقالوا : معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا ، ونحن بنو أب واحد من كنعان ، ونحن اثنا عشر رجلاً ذهب منا واحد ، وصغيرنا عند أبينا فقال : لا بد أن أستعلم أمركم وعندهم : أنه حبسهم ثلاثة أيام ثم أخرجهم ، واحتبس شمعون عنده ليأتوه بالأخ الآخر وفي بعض هذا نظر

قال تعالى : " ولما جهزهم بجهازهم " أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته ، من إعطاء كل إنسان حمل بعير لا يزيده عليه " قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم " وكان قد سألهم عن حالهم ، وكم هم ؟ فقالوا : كنا اثني عشر رجلاً ، فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا فقال : إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم

" ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين " ؟ أي قد أحسنت نزلكم وقراكم ، فرغبهم ليأتوه به ثم رهبهم إن لم يأتوه به فقال : " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " أي فلست أعطيكم ميرة ، ولا أقريكم بالكلية ، عكس ما أسدي إليهم أولاً

فاجتهد في إحضاره معهم ليبل شوقه منه بالترغيب والترهيب

" قالوا سنراود عنه أباه " أي سنجتهد في مجيئه معنا وإتيانه إليك بكل ممكن ، " وإنا لفاعلون " أي وإنا لقادرون على تحصيله

ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم وهي ما جاءوا به يتعوضون به عن الميرة في أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها " لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون " قيل أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم ، وقيل خشي ألا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية ، وقيل تذمم أن يأخذ منهم عوضاً عن الميرة

وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم على أقوال سيأتي ذكرها ، وعند أهل الكتاب أنها كانت صرراً من ورق ، وما أشبه والله أعلم

* * *

" فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون * قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين * ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير * قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل * وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون * ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون "

يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم وقولهم له : " منع منا الكيل " أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا ، فإن أرسلته معنا لم يمنع منا

" ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي " أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا ؟ " ونمير أهلنا " أي نمتار لهم ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ومحلهم ، " ونحفظ أخانا ونزداد " بسببه " كيل بعير "

قال الله تعالى : " ذلك كيل يسير " أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر

وكان يعقوب عليه السلام أضن شيء بولده بنيامين ، لأنه كان يشم فيه رائحة أخيه ويتسلى به عنه ، ويتعوض بسببه منه

فلهذا قال : " لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم " أي إلا أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به " فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل "

أكد المواثيق وقرر العهود ، واحتاط لنفسه في ولده ، ولن يغني حذر من قدر ! ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة ، لما بعث الولد العزيز ، ولكن الأقدار لها أحكام ، والرب تعالى يقدر ما يشاء ويختار ما يريد ويحكم ما يشاء وهو الحكيم العليم

ثم أمرهم ألا يدخلوا المدينة من باب واحد ، ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة وقيل : أراد ألا يصيبهم أحد بالعين ، وذلك لأنهم كانوا أشكالاً حسنة وصوراً بديعة قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والسدي والضحاك

وقيل : أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبراً ليوسف أو يحدثون عنه بأثر قاله إبراهيم النخعي

والأول أظهر ولهذا قال : " وما أغني عنكم من الله من شيء "

وقال تعالى : " ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون "

وعند أهل الكتاب : أنه بعث معهم هدية إلى العزيز من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل ، وأخذوا الدراهم الأولى وعرضاً آخر

" ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون * فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون * قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون * قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم * قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين * قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين * فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم * قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون * قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون "

يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف ، وإيوائه إليه ، وإخباره له سراً عنهم بأنه أخوه ، وأمره بكتم ذلك عنهم وسلاه عما كان منهم من الإساءة إليه

ثم احتال على أخذه منهم وتركه إياه عنده دونها ، فأمر فتيانه بوضع سقايته ، وهي التي كان يشرب بها ويكيل بها للناس الطعام ، عن غرة في متاع بنيامين ، ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك ، ووعدهم جعالة على رده ، حمل بعير ، وضمنه المنادي لهم فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فذنبوه وهجنوه فيما قاله لهم : " قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين " يقولون : أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا به من السرقة

" قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين " وهذه كانت شريعتهم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه ولهذا قالوا : " كذلك نجزي الظالمين "

قال الله تعالى : " فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه " ليكون ذلك أبعد للتهمة وأبلغ في الحيلة ، ثم قال الله تعالى : " كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " أي لولا اعترافهم بأن جزاءه من وجد في رحله فهو جزاؤه ، لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر " إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء " أي في العلم : " وفوق كل ذي علم عليم "

وذلك لأن يوسف كان أعلم منهم ، وأتم رأياً وأقوى عزماً وحزماً ، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك ، لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك ، من قدوم أبيه وقومه عليه ووفودهم إليه

فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين " قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " يعنون يوسف ، قيل كما قد سرق صنم جده أبي أمه فكسره وقيل كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه وهو صغير منطقاً كانت لإسحاق ، ثم استخرجوها من بين ثيابه وهو لا يشعر بما صنعت ، وإنما أرادت أن يكون عندها وفي حضانتها لمحبتها له وقيل كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء وقيل غير ذلك فلهذا : " قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه " وهي كلمته بعدها ، وقوله : " أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون " أجابهم سراً لا جهراً ، حلماً وكرماً وصفحاً وعفواً ، فدخلوا معه في الترفق والتعطف فقالوا : " يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون " أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البرىء ، وهذا ما لا نفعله ولا نسمح به ، وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده

وعند أهل الكتاب : أن يوسف تعرف إليهم حينئذ وهذا مما غلوا فيه ولم يفهموه جيداً

" فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين * ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين * واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون * قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون * يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون "

يقول تعالى مخبراً عنهم لما استيأسوا من أخذه منه : خلصوا يتناجون فيما بينهم ، قال كبيرهم وهو روبيل : " ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله " لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ؟ لقد أخلفتم عهده ، وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله ، فلم يبق لي وجه أقابله به " فلن أبرح الأرض " أي لا أزال مقيماً هاهنا " حتى يأذن لي أبي " في القدوم عليه ، " أو يحكم الله لي " بأن يقدرني على رد أخي إلى أبي " وهو خير الحاكمين "

" ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق " أي أخبروه بما رأيتم من الأمر في ظاهر المشاهدة " وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين * واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها " أي فإن هذا الذي أخبرناك به - من أخذهم أخانا لأنه سرق - أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك " وإنا لصادقون "

" قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل " أي ليس الأمر كما ذكرتم ، لم يسرق ، فإنه ليس سجية له ولا خلقة وإنما " سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل "

قال ابن إسحاق وغيره : لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتباً على صنيعهم في يوسف ، قال لهم ما قال وهذا كما قال بعض السلف : إن من جزاء السيئة السيئة بعدها !

ثم قال : " عسى الله أن يأتيني بهم جميعا " يعنى يوسف وبنيامين وروبيل : " إنه هو العليم " أي بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة " الحكيم " فيما يقدره ويفعله ، وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة

" وتولى عنهم " أي أعرض عن بنيه : " وقال يا أسفى على يوسف " ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم ، وحرك ما كان كامناً كما قال بعضهم :

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول

وقال آخر :

لقــد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقــال : أتبكي كل قبر رأيــــته لقبر ثوى بين اللوى فالدكـادك

فقلت له : إن الأسى يبعث الأسى دعنـى فهـذا كلــه قبر مــــالك

وقوله : " وابيضت عيناه من الحزن " أي من كثرة البكاء ، " فهو كظيم " أي مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف

فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق " قالوا " له على وجه الرحمة والرأفة والحرص عليه : " تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين "

يقولون : لا تزال تتذكره حتى ينحل جسدك وتضعف قوتك ، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك

" قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " يقول لبنيه : لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه ، إنما أشكوه إلى الله عز وجل ، وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجاً ومخرجاً ، وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع ، ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى ولهذا قال : " وأعلم من الله ما لا تعلمون "

ثم قال لهم محرضاً على تطلب يوسف وأخيه ، وأن يبحثوا عن أمرهما : " يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " أي لا تيأسوا من الفرج بعد الشدة ، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه ، وما يقدره من المخرج في المضايق ، إلا القوم الكافرون

* * *

" فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين * اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين "

يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ، ورغبتهم فيها لديه من الميرة ، والصدقة عليهم برد أخيهم بنيامين إليهم : " فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر " أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال ، " وجئنا ببضاعة مزجاة " أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن تتجاوز عنا قيل كانت دراهم رديئة ، وقيل قليلة ، وقيل حب الصنوبر وحب البطم ونحو ذلك وعن ابن عباس : كانت خلق الغرائر والحبال ونحو ذلك

" فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين " قيل بقولها ، قاله السدي ، وقيل برد أخينا إلينا ، قال ابن جريج وقال سفيان بن عيينة : إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزع بهذه الآية رواه ابن جرير

فلما رأى ما هم فيه من الحال ، وما جاءوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال ، تعرف إليهم وعطف عليهم ، قائلاً لهم عن أمر ربه وربهم ، وقد حسر عن جبينه الشريف ، وما يحويه من الحال الذي يعرفون فيه : " هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون "

" قالوا " وتعجبوا كل العجب ، وقد ترددوا إليه مراراً عديدة وهم لا يعرفون أنه هو " أإنك لأنت يوسف " ؟

" قال أنا يوسف وهذا أخي " يعنى أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم ، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم وقوله " وهذا أخي " تأكيد لما قال ، وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد ، وعملوا في أمرهما من الإحتيال ولهذا قال : " قد من الله علينا " أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا ، وإيوائه لنا وشده معاقد عزنا ، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا ، وصبرنا على ما كان منكم وطاعتنا وبرنا لأبينا ، ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا " إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين "

" قالوا تالله لقد آثرك الله علينا " أي فضلك وأعطاك ما لم يعطنا ، " وإن كنا لخاطئين " أي فيما أسدينا إليك وها نحن بين يديك " قال لا تثريب عليكم اليوم " أي لست أعاتبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا ثم زادهم على ذلك فقال : " يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " ومن زعم أن الوقف على قوله : " لا تثريب عليكم " وابتدأ بقوله : " اليوم يغفر الله لكم " فقوله ضعيف والصحيح الأول

ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه ، وهو الذي يلى جسده ، فيضعوه على عيني أبيه ، فإنه يرجع إليه بصره بعد ما كان ذهب ، بإذن الله ، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات

ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر ، إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة ، على أكمل الوجوه وأعلى الأمور

" ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم * فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون * قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم "

قال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، سمعت ابن عباس يقول : " ولما فصلت العير " قال : لما خرجت العير هاجت ريح ، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال : " إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون " قال : فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة أيام وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي سنان به

وقال الحسن البصري وابن جريج المكي : كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخاً ، وكان له منذ فارقه ثمانون سنة

وقوله : " لولا أن تفندون " أي تقولون إنما قلت هذا من الفند ، وهو الخرف وكبر السن

قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة " تفندون " تسفهون ، وقال مجاهد أيضاً والحسن : تهرمون

" قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " قال قتادة والسدي : قالوا له كلمة غليظة

قال الله تعالى : " فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا " أي بمجرد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب فرجع من فوره بصيراً بعد ما كان ضريراً وقال لبنيه عند ذلك : " ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون " أي أعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف ، وسيقر عيني به ، وسيريني فيه ومنه ما يسرني

فمنذ ذلك : " قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين " طلبوا منه أن يستغفر لهم لله عز وجل عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه ، وما كانوا عزموا عليه ، ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل ، وفقهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم ، فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا ، وما عليه عولوا قائلاً : " سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم "

قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم : أرجأهم إلى وقت السحر قال ابن جرير : حدثني أبو السائب : حدثنا ابن إدريس قال : سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال : كان عمر يأتي المسجد فسمع إنساناً يقول : اللهم دعوتني فأجبت ، وأمرتني فأطعت ، وهذا السحر فاغفر لي قال : فاستمع إلى الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود ، فسأل عبد الله عن ذلك فقال : إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله : " سوف أستغفر لكم ربي " وقد قال تعالى : " والمستغفرين بالأسحار "

وثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول : هل من تائب فأتوب عليه هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له " ؟ وقد ورد في حديث : " أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة "

قال ابن جرير : حدثني المثني ، قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي ، حدثنا الوليد ، أنبأنا ابن جريج ، عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سوف أستغفر لكم ربي " يقول : " حتى ليلة الجمعة ، وهو قول أخي يعقوب لبنيه "



وهذا غريب من هذا الوجه ، وفي رفعه نظر ، والأشبه أن يكون موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما

* * *

" فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم * رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين "

هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة ، التي قيل : إنها ثمانون سنة ! وقيل : ثلاث وثمانون سنة وهما روايتان عن الحسن ، وقيل : خمس وثلاثون سنة قاله قتادة وقال محمد بن إسحاق : ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة قال : وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة

وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريباً ، فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة ، فيما قاله غير واحد ، فامتنع فكان في السجن بضع سنين ، وهي سبع عند عكرمة وغيره ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع ، ثم لما أمحل الناس في السبع البواقي ، جاء إخوته يتمارون في السنة الأولي وحدهم ، وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين ، وفي الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار أهليهم أجمعين ، فجاءوا كلهم

" فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه " واجتمع بهما خصوصاً وحدهما دون إخوته ، " وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " قيل هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره قال : ادخلوا مصر ، وآوي إليه أبويه ، وضعفه ابن جرير وهو معذور وقيل : بل تلقاهما وآواهما في منزل الخيام ، ثم لما اقتربوا من باب مصر " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " قاله السدي ، ولو قيل : إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضاً

وعند أهل الكتاب : أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر - وهي أرض بلبيس - خرج يوسف لتلقيه ، وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشراً بقدومه ، وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر ، يكونون فيها ، ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم وقد ذكر جماعة من المفسرين ، أنه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب - وهو إسرائيل - أراد يوسف أن يخرج لتلقيه ، فركب معه الملك وجنوده ، خدمة ليوسف وتعظيماً لنبي الله إسرائيل وأنه دعا للملك ، وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سني الجدب ببركة قدومه إليهم فالله أعلم

وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم - فيما قاله أبو إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود - ثلاثة وستين إنساناً

وقال موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، عن عبد الله بن شداد : كانوا ثلاثة وثمانين إنساناً

وقال أبو إسحاق عن مسروق : دخلو وهم ثلاثمائة وتسعون إنساناً

قالوا : وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل ، وفي نص أهل الكتاب : أنهم كانوا سبعين نفساً وسموهم

* * *

قال الله تعالى : " ورفع أبويه على العرش " قيل : كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة وقال بعض المفسرين : أحياها الله تعالى وقال آخرون : بل كانت خالته ليا والخالة بمنزلة الأم

وقال ابن جرير وآخرون : بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ ، فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه وهذا قوي والله أعلم

ورفعهما على العرش ، أي أجلسهما معه على سريره : " وخروا له سجدا " أي سجد له الأبوان والإخوة الأحد عشر ، تعظيماً وتكريماً وكان هذا مشروعاً لهم ، ولم يزل ذلك معمولاً به في سائر الشرائع حتى حرم في ملتنا

" وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل " أي هذا تعبير ماكنت قصصته عليك : من رؤيتي الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر ، حين رأيتهم لي ساجدين ، و أمرتني بكتمانها ، ووعدتني ما وعدتني عند ذلك " قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن " أي بعد الهم والضيق ، جعلني حاكماً نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت " وجاء بكم من البدو " أي البادية وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخيل " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي " أي فيما كان منهم من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره

ثم قال : " إن ربي لطيف لما يشاء " أي إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه ، ويسرها وسهلها وجوه لا يهتدي إليها العباد ، بل يقدرها ويسرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته أي بجميع " إنه هو العليم " بالأمور " الحكيم " في خلقه وشرعه وقدره

وعند أهل الكتاب : أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذي كان تحت يده ، بأموالهم كلها ، من الذهب والفضة ، والعقار والأثاث ، وما يملكونه كله ، حتى باعهم بأنفسهم فصاروا أرقاء ثم أطلق لهم أرضهم وأعتق رقابهم على أن يعملوا ، ويكون خمس ما يستغلون من زروعهم وثمارهم للملك فصارت سنة أهل مصر بعده

وحكى الثعليب : أنه كان لايشبع في تلك السنين ، حتى لاينسى الجيعان ، وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار قال : فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك قلت : وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، لايشبع بطنه عام الرمادة حتى ذهب الجدب وأتى الخصب

قال الشافعي : قال رجل من الأعراب لعمر بعدما ذهب عام الرمادة : لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة !

ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت ، وشمله قد اجتمع ، وعرف أن هذه الدار لا يقر بها قرار ، وأن كل شيء فيها ومن عليها فان ، وما بعد التمام إلا النقصان ، فنعد ذلك أثنى على ربه بما هو أهله ، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله ، وسأل منه - وهو خير المسئولين - أن يتوفاه ، أي حين يتوفاه على الإسلام ، وأن يلحقه بعباده الصالحين ، وهكذا كما يقال في الدعاء : اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين أي حين تتوفانا

ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام ، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الأعلى ، و الرفقاء الصالحين من النبيين والمرسلين ، كما قال : اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثاً ثم قضى

ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاء على الإسلام منجزاً في صحة بدنه وسلامته ، أن ذلك كان سائغاً في ملتهم وشرعتهم ، كما روي عن ابن عباس أنه قال : ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف

فأما في شريعتنا فقد نهى عن الدعاء ، بالموت إلا عند الفتن ، كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد : " وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين " وفي الحديث الآخر : " ابن آدم الموت خير لك من الفتنة " وقالت مريم عليها السلام : " يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " وتمنى الموت علي بن أبي طالب ، لما تفاقمت الأمور وعظمت الفتن واشتد القتال ، وكثر القيل والقال وتمنى ذلك البخاري أبو عبد الله صاحب الصحيح ، لما اشتد عليه الحال ولقي من مخالفيه الأهوال

فأما في حال الرفاهية فقد روى البخاري و مسلم في صحيحهما من حديث أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لايتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، إما محسناً فلعله يزداد ، وإما مسيئاً فلعله يستعتب ، ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي " والمراد بالضر هاهنا : ما يخص العبد في بدنه ، من مرض ونحوه ، لا في دينه

والظاهر أن نبي الله يوسف عليه السلام سأل ذلك ، إما عند احتضاره ، أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك

وقد ذكر ابن إسحاق عن أهل الكتاب : أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة ، ثم توفي عليه السلام وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحاق ، قال السدي : فصبره وسيره إلى بلاد الشام فدفنه بالمغارة عند أبيه إسحاق وجده الخليل عليه السلام

وعند أهل الكتاب : أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة وعندهم أنه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة ، ومع هذا قالوا : فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة

هدا نص كتابهم وهو غلط : أما في النسخة أو منهم ، أو قد أسقطوا الكسر وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا ، فكيف يستعملون الطريقة ها هنا

وقد قال تعالى في كتابه العزيز : " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون "

يوصي بنيه بالإخلاص ، وهو دين الإسلام الذي بعث الله به الأنبياء عليهم السلام

وقد ذكر أهل الكتاب : أن أوصى بنيه واحداً واحداً ، وأخبرهم بما يكون من أمرهم وبشر يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله تطيعه الشعوب ، وهو عيسى ابن مريم والله أعلم

وذكروا : أنه لما مات يعقوب بكي عليه أهل مصر سبعين يوماً ، وأمر يوسف الأطباء فطيبوه بطيب ومكث فيه أربعين يوماً ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله ، فأذن له وخرج معه أكابر مصر وشيوخها ، فلما وصلوا حبرون ودفنوه في المغارة التي كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثي ، وعملوا له عزاء سبعة أيام

قالوا : ثم رجعوا إلى بلادهم ، وعزى إخوة يوسف يوسف في أبيهم ، وترققوا له فأكرمهم وأحسن منقلبهم ، فأقاموا ببلاد مصر

ثم حضرت يوسف عليه السلام الوفاة ، فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه ، فحنطوه ووضعوه في تابوت ، فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه السلام ، فدفنه عند آبائه كما سيأتي قالوا : فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين

هذا نصهم وفيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضاً ، وقال مبارك ابن فضالة عن الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة ، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة وقال غيره : أوصى إلى أخيه يهوذا ، صلوات الله عليه وسلامه

* *

قبورنا تبنا ونحن ماتبنا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-23-2008, 06:46 PM   #2
قبورنا تبنا ونحن ماتبنا
عضــو فعــــــال
 
تاريخ التسجيل: Jun 2008
المشاركات: 12
افتراضي

وفي يا شيخ قصة لعيسى عليه السلام بس انا اول مره اقراها ماأدري هل هي من قصص اليهود والنصارى او قالها لنى الرسول عليه السلام

وهل يجوز قراءة قصص اليهود والنصارى الي جت في كتبهم او يوجد بها تحريف ويجب علينا اجتنابها



قصة عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وابن أمته عليه من الله أفضل الصلاة والسلام

قال الله تعالى في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله ، الذين زعموا أن لله ولداً ، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً

وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة وعيسى ومريم ، على اختلاف فرقهم ، فأنزل الله عز وجل صدر هذه السورة بين فيها أن عيسى بعد من عباد الله خلقه وصوره في الرحم كما صور غيره من المخلوقات وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم ، وقال له كن فكان سبحانه وتعالى وبين اصل ميلاد أمه مريم وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى ، وكذلك بسط ذلك في سورة مريم كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته

فقال تعالى وهو أصدق القائلين :" إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم * إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "

يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته ، ثم خصص فقال :" وآل إبراهيم " فدخل فيهم بنو إسماعيل ثم ذكر فضل هذا البية الطاهر الطيب وهم آل عمران ، والمراد بعمران هذا والد مريم عليهما السلام

وقال محمد بن إسحاق : وهو عمران بن هشام بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن أحريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إيشا بن إيان بن رحبعام بن داود

وقال أبو القاسم بن عساكر : مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليهود بن أخنز بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن أيبود بن زرابابيل ابن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون ابن ميشا بن حزقيا بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام وفيه مخالفة لما ذكره محمد بن إسحاق

ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه ، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات ، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم أشياع في قول الجمهور وقيل زوج خالتها أشياع فالله أعلم

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أمر مريم كانت لا تحبل فرأت يوماً طائراً يزق فرخاً له فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محرراً أي حبيساً في بيت المقدس

قالوا : فحاضت من فورها فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت " وقرئ بضم التاء " وليس الذكر كالأنثى " أي في خدمة بيت المقدس ، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداماً من أولادهم

وقولها :" وإني سميتها مريم " استدل به على تسمية المولود يوم يولد ، وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهبه بأخيه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحنك أخاه وسماه عبد الله وجاء في حديث الحسن عن سمرة مرفوعاً :" كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمي ويحلق رأسه "

رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وجاء في بعض ألفاظه :" ويدمى " بدل " ويسمى " وصححه بعضهم والله أعلم

وقولها :" وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها ، فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها " ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم : " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم "

أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية ، عن عبد الله بن الزبيدي ، عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه

وقال أحمد أيضاً : حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا ابن أبي ذؤيب ، عن عجلان مولى المشتمعل ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بأصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى "

تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن عمر بن الحارث ، عن أبي يونس ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه

وقال أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حفص بن ميسرة ، عن العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا ما كان من مريم وابنها ، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ ، ؟ قالو : بلى يا رسول الله قال : ذلك حين يلكزه الشيطان بحضنيه "

وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه من هذا الوجه ، ورواه قيس عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة - أو عصرتين - إلا عيسى ابن مريم ومريم " ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم "

وكذا رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بأصل الحديث

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله ، حدثنا المغيرة هو ابن عبد الرحمن الحزامي ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كل نبي آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب " وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه

وقوله :" فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا "ذكر كثير من الفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خرقها ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به ، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها ، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها

ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها ، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان ، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم ، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم وذلك أن الخالة بمنزلة الأم

قال الله تعالى " وكفلها زكريا " أي بسبب غلبه لهم في القرعة كما قال تعالى :" ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون " قالوا : وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفاً به ثم حملوها ووضعوها في موضع وأمروا غلاماً لم يبلغ الحنث فأخرج واحداً منها وظهر قلم زكريا عليه السلام فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء ، وسارة أقلامهم مع الماء ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعداً فهو الغالب ففعلوا فكن زكريا هو الغالب لهم فكفلها إذا كان أحق بها شرعاً وقدراً لوجوه عديدة

قال الله تعالى :" كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " قال المفسرون : اتخذ لها زكريا مكاناً شريفاً من المسجد لا يدخله سواها ، فكانت تعبد الله فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها ، وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها ، حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل ، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة ، حتى إنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقاً غريباً في غير أوانه فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها " أنى لك هذا " فتقول :" هو من عند الله " أي رزق رزقنيه الله " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "

فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه وإن كان قد أسن وكبر " قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " قال بعضهم : قال : يامن يرزق مريم الثمر في غير أوانه ، هب لي ولداً وإن كان في غير أوانه ، فكان من هبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته

" وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين * ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون * إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل * ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم "

يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء علمي زمانها ، بأن اختارها لإيجاد ولد منها من غير اب وبشرت بأن يكون نبياً شريفاً " يكلم الناس في المهد " أي في صغره يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وكذلك في حال كهوليته ، فدل على أن يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها ، وأمرت بكثرة العبادة والقنةت والسجود والركوع لتكون ÷لاً لهذه الكرامة ولتقوم بشكر هذه النعمة فيقال إنها كاتن تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها

فقول الملائكة :" يا مريم إن الله اصطفاك " أي اختارك واجتباك " وطهرك " أي من الأخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة " واصطفاك على نساء العالمين " يحتمل أن يكون المراد عالمي زمانها كقوله لموسى :" إني اصطفيتك على الناس " وكقوله عن بني إسرائيل :" ولقد اخترناهم على علم على العالمين " ومعلوم أن إبراهيم علييه السلام أفضل من موسى ، وأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) أفضل منهما ، وكذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها وأكثر عدداً وأفضل علماً وأزكى عملاً من بني إسرائيل وغيرهم

ويحتمل أن يكون قوله :" واصطفاك على نساء العالمين " محفوظ العموم فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها أو جد بعدها لأنها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها ونبوة سارة أم إسحاق نبوة أم موسى محتجاً بكلام الملائكة والوحي إلى أم موسى ، كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره ، فلا يمتنع على هذا أن تكون مريم أفضل من سارة أم موسى لعموم قوله :" واصطفاك على نساء العالمين " إذ لم يعارضه غيره والله أعلم

وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال ، وليس في النساء نبية فيكون أعلى مقامات مريم كما قال الله تعالى :" ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة " فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها والله أعلم

وقد جاء ذكرها مقروناً مع آسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) ورضي الله عنهن وأرضاهن

وقد روى الإمام أحمد و البخاري ومسلم و الترمذي و النسائي من طرق عديدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد "

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" حسبك من نساء العالمين بأربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد "

ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زنجويه ، عن عبد الرزاق به وصححه ، ورواه ابن مردويه من طريق بعد الله بن أبي جعفر الرازي وابن عساكر من طريق تميم بن زياد ، كلاهما عن أبي جعفر الرازي ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد رسول الله "

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، قال : كان أبي هريرة يحدث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" خير نساء ركبن الإبل صلاح نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه لزوج في ذات يده " قال أبو هريرة : ولم تركب مريم بعيراً قط

وقد رواه مسلم في صحيحه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق به

وقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني موسى بن علي سمعت أبي يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده " قال أبو هريرة : وقد علم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ان ابنة عمران لم تركب الإبل

تفرد به وهو على شرط الصحيح ولهذا الحديث طرق أخر عن أبي هريرة

وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن علباء ابن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الأرض أربع خطوط فقال :" أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " ورواه النسائي من طرق عن داود بن أبي هند

وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا يحيى بن حاتم العسكري : أنبأنا بشر بنمهران بن حمدان ، حدثنا محمد بن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله 0صلى الله عليه وسلم) : " حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين : فاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران "

وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا وهب بن بقية ، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أنها قالت لفاطمة : أرأيت حين أكببت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبكيت ثم ضحكت ؟ قالت : أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت ، ثم أكببت عليه فأخبرني أني أسرع أهله لحوقاً به وأني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت

وأصل هذا الحديث في الصحيح وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه أنهما أفضل الأربع المذكورات

وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير ، عن يزيد - هو ابن أبي زياد - عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله 0صلى الله عليه وسلم) :" فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران " إسناد حسن وصححه الترمذي ولم يخرجوه ، وقد روي نحوه من حديث علي بن أبي طالب ولكن في إسناده ضعف

والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الأربع ، ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة ويحتمل أن يكونا على السواء في الفضيلة

ولكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الأول فقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : أنبأنا أبو الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا ، قالوا : أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة ، أنبأنا أبو طاهر المخلص ، حدثنا أحمد بن سليمان ، حدثنا الزبير هو ابن بكار ، حدثنا محمد بن الحسن ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن موسى بن عقبة عن كريب ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون "

فإن كان هذا اللفظ محفوظاً بثم التي للترتيب فهو مبين لأحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء ، وتقدم على ما تقدم من الألفاظ التي وردت بواو العطف التي لاتقتضي الترتيب ولا تنفيه والله أعلم

وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي عن داود الجعفري عن عبد العزيز بن محمد وهو الدراوردي ، عن إبراهيم عن عقبه ، عن كريب ، عن ابن عباس مرفوعا ، فذكره بواو العطف لا بثم الترتيبية ، فخالفه إسنادا ومتنا فالله أعلم

فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث : مريم بنت

عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق ، عن شعبة ، عن عمرو ابن مرة ، عن مرة الهمداني ، عن أبي موسى الأشعري ، قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام "

فإنه حديث صحيح كما ترى اتفق الشيخان على إخراجه ، ولفظه يقتضي حصر الكمال في النساء في مريم وآسية ، ولعل المراد بذلك في زمانهما فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره ، فآسية كفلت موسى الكليم ، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله ، فلا ينفي كمال غيرهما في هذه الأمة كخديجة وفاطمة

فخديجة خدمت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل البعثة خمسة عشر سنة وبعدها أزيد من عشر سنين ، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها ، رضي الله عنها وأرضاها

وأما فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها لأنها أصيبت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبقية أخواتها متن في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)

وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول االله (صلى الله عليه وسلم) إليه ولم يتزوج بكرا غيرها ، لا يعرف في سائر النساء في هذه الأمة - بل ولا في غيرها -أعلم منها ولا أفهم ، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فأنزل الله براءتها من فوق سبع سموات ، وقد عمرت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قريباً من خمسين سنة تبلغ عنه القرآن والسنة وتفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين ، والأحشن الوقف فيهما رضي الله عنهما ، وما ذاك إلا لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) :" وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " يحتمل أن يكون عاماً بالنسبة إلى المذكورات وغيرهن ويحتمل أن يكون عاماً بالنسبة إلى ماعدا المذكورات والله أعلم

والمقصود هاهنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام ، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمي زمانها ، ويحوز أن يكون تفضيلها على النساء ملطقاً كما قدمنا وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجنة هي وآسية بنت مزاحم وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك واستأنس بقوله :" ثيبات وأبكارا " قال : فالثيب آسية ومن الأبكار مريم بنت عمران وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم فالله أعلم

قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا أبي ، أنبأنا عمي الحسين ، حدثنا يونس بن نفيع ، عن سعد بن جنادة ، هو العوفي ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى "

رواه ابن جعفر العقيلي من حديث عبد النور به وزاد فقلت : هنيئاً لك يا رسول الله ثم قال العقيلي : وليس بمحفوظ

وقال الزبير بن بكار : حدثني محمد بن الحسن ، عن يعلى بن المغيرة عن أبي داود ، قال : دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه فقال لها :" بالكره مني ما أري منك يا خديجة ، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً ، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون ، قالت : وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم قالت : بالرفاء والبنين "

وروى ابن عساكر من حديث بن زكريا الغلابي ، حدثنا العباس بن بكار ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل على خديجة وهي في مرض الموت فقال :" يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام قالت : يا رسول الله وهل تزوجت قبلي ؟ قال : لا ، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى "

وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد ، حدثنا محمد بن صالح بن عمر ، عن الضحاك ومجاهد ، عن ابن عمر ، قال : نزل جبريل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما أرسل به وجلس يحدث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غذ مرت خديجة فقال جبريل : من هذه يا محمد ؟ قال :" هذه صديقة أمتي " قال جبريل معي إليها رسالة من الرب عز وجل يقرئها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب قالت : الله السلام ومنه السلام والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله ، وما ذلك البيت الذي من قصب ؟ قال : لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم ، وعما من أزواجي يوم القيامة

وأصل السلام على خديجة من الله وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب في الصحيح ، ولكن هذ1 السياق بهذه الزيادات غريب جداً ، وكل من هذها الأحاديث في أسانيدها نظر

وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي ، حدثنا بعد الله بن صالح ، حدثني معاوية ، عن صفوان بن عمرو ، عن خالد بن معدان عن كعب الأحبار أن معاوية سأله عن الصخرة - يعني صخرة بيت المقدس - فقال : الصخرة على نخلة ، والنخلة على نهر من أنهار الجنة ، وتحت النخلة مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم ينظمان سموط أهل الجنة حتى تقوم الساعة

ثم رواه من طريق إسماعيل ، عن عياش ، عن ثعلبة بن مسلم ، عن مسعود ، عن عبد الرحمن ، عن خالد بن معدان ، عن عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بمثله

وهذا منكر من هذا الوجه بل هو موضوع

وقد رواه أبو زرعة عن عبد الله بن صالح ، عن معاوية عن مسعود بن عبد الرحمن ،عن ابن عابد ، أن معاوية سألة كعباً عن صخرة بيت المقدس فذكره

قال الحافظ ابن عساكر : وكونه من كلام كعب الأحبار أشبه

قلت : وكلام كعب الأحبار هذا إنما تلقاه من الإسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم وهذا منه والله أعلم

ذكر ميلاد العبد الرسول عيسى ابن مريم العذراء البتول

قال الله تعالى :" واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا * فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا * ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم "

ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا التي هي كالمقدمة لها والتوطئة قبلها ، كما ذكر في سورة آل عمران قرن بينهما في سياق واحد ، وكما قال في سورة الأنبياء :" وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين * والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين "

وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس ، وأنه كفلها أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام ، وأنه اتخذ لها محراباً وهو المكان الشريف من المسجد ، لا يدخله أحد عليها سواه ، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات ، وظهر عليها من الأحوال ما عبطها به زكريا عليه السلام ، وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها وبأنها سيهب لها ولداً زكياً يكون نبياً كريماً طاهراً مكرماً مؤيداً بالمعجزات ، فتعجبت من وجود ولد من غير والد ، لأنها لا زوج لها ، ولا هي ممن تنزوج فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت لأمر الله ، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها ، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه ، لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر ، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل

وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء ، فبينما هي يوماً قد خرجت لبعض شئونها و " انتبذت " أي انفردت وحدها شرقي المسجد الأقصى إذا بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشرا سويا " فلما رأته " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " قال أبو العالية : علمت أن التقى ذو نهية وهذا يرد قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق اسمه تقي فإن هذا قول باطل بلا دليل ، وهو من أسخف الأقوال

" قال إنما أنا رسول ربك " أي خاطبها الملك " قال إنما أنا رسول ربك " أي لست ببشر ولكني ملك بعثني الله عليك " لأهب لك غلاما زكيا "

" قالت أنى يكون لي غلام " أي كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد " ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " أي ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة " قال كذلك قال ربك هو علي هين " أي فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلاً : " كذلك قال ربك " أي وعد أنه سيخلق منك غلاماً ولست بذات بعل ، ولا تكونين ممن تبغين " هو علي هين " أي وهذا سهل عليك ويسير لديه ، فإنه على ما يشاء قدير

وقوله :" ولنجعله آية للناس " أي ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلاً على كمال قدرتنا على أنواع الخلق ، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى وقوله " ورحمة منا " أي نرحم به العباد بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته ، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركان والنظراء والأضداد والأنداد

وقوله :" وكان أمرا مقضيا " يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها ، يعني أن هذا أمر قضاه وحتمه وقدره وقرره ، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق واختياره ابن جرير ، ولم يحك سواه والله أعلم

ويحتمل أن يكون قوله :" وكان أمرا مقضيا " كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى :" ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا "

فذكر غير واحد من السلف أن جبريل نفخ في جيب رعها فنزلت النفخة إلى فرجها فحملت من فورها كما تحمل المرأة عند جماع بعلها ومن قال إنه نفخ في فمها أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها ، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن ، فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل ملك من الملائكة وهو جبريل عليه السلام ، وأنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج بل نفخ في جيبها فنزلت النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه كما قال تعالى :" فنفخنا فيه من روحنا " فدل على أن النفخة ولجت فيه لا في فمها ، كما رواه السدي بإسناده عن بعد الصحابة

ولهذا قال تعالى :" فحملته " أي فحملت ولدها " فانتبذت به مكانا قصيا " وذلك لأن مريم عليها السلام لما حملت ضافت به ذرعاً ، علمت أن كثيراً من الناس سيكون منهم كلام في حقها ، فذكر غير واحد من السلف منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب النجار ، وكان إبن خالها فجعل يعجب من ذلك عجباً شديداً ، وذلك لما يعمل من ديانتها ونزاهتها وعبادتها وهو مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج ، فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال : يا مريم هل يكون زرع من غير بذر ؟ قالت : نعم ، فمن خلق الزرع الأول ثم قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم إن الله خلق آدم من ذكر ولا أنثى قال لها : فأخبريني خبرك فقال : إن الله بشرني " بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين "

ويروي مثل هذا عن زكريا عليه السلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا والله أعلم

وذكر السدي بإسناده عن الصحبة : أن مريم دخلت يوماً على أختها فقالت لها أختها : أشعرت أني حبلى ؟ فقال مريم : وشعرت أيضاً أني حبلى ؟ فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله :" مصدقا بكلمة من الله " ومعنى السجود هاهنا الخضوع والتعظيم ، كالسجود عند المواجهة للسلام كما كان في شرع من قبلنا ، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم : وقال أبو القاسم ، قال مالك يك بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة وكان حملهما جميعاً معاً ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عله السلام ، لأن الله تعالى جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وراه ابن أبي حاتم

وروى عن مجاهد قال : قالت مريم : كنت إذا خلوت حدثني وكلمني وإذا كنت بين الناس سبح في بطني

ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعهن ، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر

وعن ابن عباس وعكرمة أنها حملت به ثمانية أشهر ، وعن ابن عباس ما هو إلا أن حملت به فوضعته ، قال بعضهم : حملت به تسع ساعات واستأنسوا لذلك بقوله :" فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة "

والصحيح أن تعقيب كل شيء بحبسه ، كقوله :" فتصبح الأرض مخضرة " وكقوله :" ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يوماً كما ثبت في الحديث المتفق عليه

قال محمد بن إسحاق : شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا

قال : واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد ، وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم وانتبذت مكاناً قصياً وقوله :" فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " أي فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة ، وهو بنص الحديث الذي رواه النسائي بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعاً والبيهقي بإسناد وصححه عن شداد بن أوس مرفوعاً أيضاً بيت لحم الذي بني عليه بعض ملوك الروم فيما بعد على ما سنذكره هذا البناء المشاهد الهائل

" قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتن ، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها ، مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه ، ومن بيت النبوة والديانة فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أو لو كانت ماتت قبل هذا الحال أو كانت " نسيا منسيا " أي لم تخلق بالكلية

وقوله :" فناداها من تحتها " وقرئ من " تحتها " على الخفض

وفي المضمر قولان ، أحدهما أنه جبريل قاله العوفي عن ابن عباس قال : ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم وبهذا قال سعيد بن جبير وعمر بن ميمون والضحاك والسدي وقتادة وقال مجاهد والحسن وابن زيد وسعيد بن جبير في رواية : هو ابنها عيسى ، واختاره ابن جرير

وقوله :" أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا " قيل النهر وإليه ذهب الجمهور وجاء فيه حديث رواه الطبراني لكنه ضعيف واختاره ابن جرير وهو الصحيح وعن الحسن والربيع بن أنس وابن أسلم وغيرهم أنه ابنها والصحيح الأول لقوله :" وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " فذكر الطعام والشراب ولهذا قال :" فكلي واشربي وقري عينا "

ثم قيل : كان جذع النخلة يابساً وقيل كانت نخلة مثمرة فالله أعلم ويحتمل أنها كانت نخلة ، لكنها لم تكن مثمرة إذا ذاك لأن ميلاده كان في زمن الشتاء وليس ذاك وقت ثمر ، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان " تساقط عليك رطبا جنيا "

قال عمرو بن ميمون : ليس شيء أجد للنفساء من التمر والرطب ثم تلا هذه الآية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا شيبان ، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي ، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجر شيء يلقح غيرها " وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" أطعموا نساءكم الولد الرطب ، فإن لم يكن رطب فتمر ، وليس من الشجر شجرة أرم على الله من شرجة نزلت تحتها مريم بنت عمران "

وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن شيبان بن فروخ ، عن مسروق بن سعيد ، وفي رواية مسرور بن سعد ، والصحيح مسرور بن سعيد التميمي ، أورد له ابن عدي هذا الحديث عن الأوزاعي به ، ثم قال : وهو منكر الحديث ولم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث

وقال ابن حبان : يروى عن الأوزاعي المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها قوله :" فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " وهذا من تمام كلام الذي ناداها من تحتها قال :" كلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا " أي فإن رأيت أحداً من الناس " فقولي " له أي بلسان الحال والإشارة " إني نذرت للرحمن صوما " أي صمتاً ، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام قاله قتادة والسدي وابن أسلم ، ويدل على ذلك قوله :" فلن أكلم اليوم إنسيا " فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلى الليل

وقوله تعالى :" فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها فمروا على محلتها والأنوار حولها ، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها فقالوا لها :" يا مريم لقد جئت شيئا فريا " أي أمراً عظيماً منكراً وفي هذا الذي قالوه ، مع أنه كلام ينقض أوله آخره وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله قال ابن عباس : وذلك بعد ما تعالت من نفاسها بعد أربعين يوماً

والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال

ثم قالوا لها :" يا أخت هارون " قيل شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تساميه في العبادة ، وكان اسمه هارون قاله سعيد بن جبير وقيل أرادوا بهارون أخا موسى شبهوها به في العبادة ، وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع ، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه وأغرف فوعون وملأه ، فاعتقد أن هذه هي هذه

وهذا في غاية البلان والمخالفة للحديث الصحيح من نص القرآن كما قررناه في التفسير مطولاً ولله الحمد والمنة

وقد ورد في الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هارون وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها والله أعلم

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، سمعت أبي يذكره ، عن سماك ، عن علقمة ابن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون :" يا أخت هارون " وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال فرحت فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال :" ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بالأنبياء والصالحين قبلهم "

وكذا رواه مسلم والنسائي و الترمذي من حديث عبد الله بن إدريس ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه ، وفي رواية :" ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم "

وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهارون حيث قيل إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير منهم ممن يسمى بهارون أربعون ألفاً فالله أعلم

والمقصود أنهم قالوا :" يا أخت هارون " ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبي اسمه هارون وكان مشهوراً بالدين والصلاة والخير ، ولهذا قالوا :" ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " أي لست من بيت هذا شميتهم ولا سجيتهم لا أخوك ولا أمك ولا أبوك فاتهموها بالفاحشة العظمى ورموها بالداهية الدهياء

فذكر ابن جرير في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله ففر منهم فلحقوه وقد انشقت له الشجرة فدخلها وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشره فيها كما قدمناه ، ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف بن يعقوب النجار

فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال ، عظم التوكل على ذي الجلال ، ولم يبقى إلا الإخلاص والاتكال " فأشارت إليه " أي خاطبوه وكلموه فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه ، فعندها " قالوا " من كان منهم جباراً شقياً :" كيف نكلم من كان في المهد صبيا " أي كيف تحيلينا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب ، وهو مع ذلك رضيع في مهده ولا يميز بين مخض وزبده ، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والنقص لنا والازدراء إذ لا تردين علينا قولاً نطقياً ، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبياً

فعندها :" قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا "

هذا أول كلام تفوه به عيسى ابن مريم ، فكان أول ما تكلم به أن " قال إني عبد الله " اعترف لربه تعالى بالعبودية ، وأن الله ربه فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله ، بل هو عبده ورسوله وابن أمته ، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله :" آتاني الكتاب وجعلني نبيا " فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا لعنهم الله وقبحهم ، وكما قال تعالى :" وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا : إنها حملت به من زنى في زمن الحيض ، لعنهم الله فبأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبياً مرسلاً أحد أولي العزم الخمسة الكبار ولهذا قال ك" وجعلني مباركا أين ما كنت " وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة ، والإحسان إلى الخيقة بالزكاة ، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاف الرذيلة وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الأصناف وقري الأضياف والنفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات

ثم قال :" وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " أي وجعلني براً بوالدتي وذلك أنه تأكد حقها عليه لتحض جهتها إذ لا والد له سواها ، فسبحان من خلق الخيقة وبرأها وأعطى كل نفس هداها " ولم يجعلني جبارا شقيا " أي لست بفظ ولا غليظ ، ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته

" والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " وهذه المواطن الثلاثة اليت تقدم الكلام عليها في قصة يحي بن زكريا عليهما السلام

ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبين أمره ووضحه وشرحه قال :" ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره في آل عمران :" ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم * إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين "

ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكباً يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم ، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم وهم العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة ، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك ، وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه ، فلما رأوا عينيها وأذنيها نطصوا وامتنعوا عن المباهلة وعدلوا إلى المسالة والموادعة ، وقال قائلهم وهو العقب عبد المسيح : يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمداً لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فطلبوا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسألوه أن يضرب عليهم جزية وأن يبعث معهم رجلاً أميناً ، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقد بينا ذلك في تفسير آل عمران وقد بسطنا هذه القسة في السيرة النبوية

والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح فقال لرسوله :" ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " يعني من أنه عبد مخلوق من امرأة من عباد الله ، ولهذا قال :" ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي لا يعجزه شيء ولا يكرنه ولا يؤوده بل هو القدير الفعال لما يشاء " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقوله :" وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " هو من تمام كلام عيسى لهم في المهد ، أخبرهم أن الله ربه وربهم وإلهه وإلههم ، وأن هذا هو الصراط المستقيم

قال الله تعالى :" فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم فيه

فمن قائل من اليهود : إنه ولد زنية ، واستمروا على كفرهم وعنادهم

وقابلهم آخرون في الكفر فقالوا : هو الله ، وقال آخرون : هو ابن الله

وقال المؤمنون : هو عبد الله ورسوله ، وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وهؤلاء هم الناجون المثابون والمؤيدون المنصورون ، ومن خالفهم في شيء من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون ، وقد توعدهم العي العظيم الحكيم العليم بقوله :" فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم "

قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل ، أنبأنا الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عمير بن هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل "

قال الوليد : فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عمير ، عن جنادة : وزاد :" من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء "

وقد رواه مسلم عن داود بن رشيد ، عن الوليد ، عن جابر به ومن طريق أخري عن الأوزاعي به



باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد

تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً

وقال تعالى في آخر سورة مريم :" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا " شيئاً عظيماً من القول وزوراً " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا "

فبين أنه تعالى لا ينبغي له الولد لأنه خالق كل شيء ومالكه ، وكل شيء فقير إليه ، خاضع ذليل لديه وجميع سكان السموات والأرض عبيده ، هو ربهم لا إله إلا هو لا رب سواه كما قال تعالى :" وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير "

فبين أنه خالف كل شيء فكيف يكون له ولد ، والولد لا يكون إلا بين شيئين متناسبين ، والله تعالى لا نظير له ولا شبيه ولا عديل له ، فلا صاحبة له ، فلا يكون له ولد كما قال تعالى :" قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " يقرر أنه الأحد الذي لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله " الصمد " وهو السيد الذي كمل علمه وحكمته ورحمته وبلغ جميع صفاته " لم يلد " أي لم يوجد منه ولد " ولم يولد " أي ولم يتولد عن شيء قبله " ولم يكن له كفوا أحد " أي وليس له عدل ولا مكافئ ولا مساو فقطع النظير المداني والأعلى والمساوي ، فانتفى أن يكون له ولد ، إذ لا يكون الولد إلا متولداً بين شيئين متعادلين أو متقاربين ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً

وقال تبارك وتعالى وتقدس :" يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا "

ينهى تعالى أهل الكتاب ومن شابههم عن الغلو والإطراء في الدين وهو مجاوزة الحد ، فالنصارى لعنهم الله غلوا وأطروا المسيح حتى جاوزوا الحد

فكان الواجب عليهم أن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله وابن أمته العذراء البتول التي أحصنت فرجها فبعث الله الملك جبريل إليها فنفخ فيها من أمر الله نفخة حملت منها بولدها عيسى عليه السلام والذي اتصل بها من الملك هي الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف وتكريم ، وهي مخلوقة من مخلوقات الله تعالى كما يقول : بيت الله وناقة الله وعبد الله ، وكذا روح الله أضيفت إليه تشريفاً لها وتكريماً وسمى عيسى بها لأنه كان بها من غير أب وهي الكلمة أيضاً التي عنها خلق وبسببها وجد كما قال تعالى :" إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " وقال تعالى :" وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون "

وقال تعالى :" وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون "

فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى عليهن لعائن الله ، كل من الفريقين ادعوا على الله شططاً وزعموا أن له ولداً ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ، وأخبر أنهم ليس لهم مستند فيما زعموه ولا فيما ائتفكوه ، إلا مجرد القول ومشابهة من سبقهم إلى هذه المقالة الضالة تشابهت قلوبهم

وذلك أن الفلاسفة عليهم لعنة الله زعموا أن العقل الأول صدر عن واجب الوجود الذي يعبرون عنه بعل العلل والمبدأ الأول ، وأنه صدر عن العقل الأول عقل ثان ونفس وفلك ، ثم صدر عن الثاني كذلك حتى تناهب العقول إلى عشرة والنفوس إلى تسعة والأفلاك إلى تسعة ، باعبارات فاسدة ذكروها واختيارات باردة أوردوها ولبسط الكلام معهم وبيان جهلهم وقلة عقلهم موضع آخر

وهكذا طوائف من مشركي العرب زعموا لجهلهم أن الملائكة بنات الله وأنه صاهر سروات الجن فتولد منها الملائكة تعالى الله عما يقولون وتنزه عما يشركون كما قال تعالى : " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون " وقال تعالى :" فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين * فاتوا بكتابكم إن كنتم صادقين * وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون * سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين "

قال تعالى :" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين "

وقال تعالى في أول سورة الكهف وهي مكية :" الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا "

وقال تعالى :" قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون "

فهذه الآيات المكيات الكريمات تشمل الرد على سائر فرق الكفرة من الفلاسفة ومشركي العرب واليهود والنصارى الذين ادعوا وزعموا بلا علم أن لله ولدا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً

ولما كانت النصارى عليهم لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة من أشهر من قال بهذه المقالة ذكروا في القرآن كثيراً للرد عليهم وبيان تناقضهم وقلة علمهم وكثرة جهلهم ، وقد تنوعت أقوالهم في كفرهم ، وذلك أن الباطل كثير التشعب والاختلاف والتناقض

وأما الحق فلا يختلف ولا يضطرب قال الله تعالى :" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " فدل على أنه الحق يتحد ويتفق والباطل يختلف ويضطرب فطائفة من ضلالهم وجهالهم زعموا أن المسيح هو الله تعالى ، وطائفة قالوا هو ابن الله ، عز الله وجل وطائفة قالوا هو ثالث ثلاثة جل الله

قال الله تعالى في سورة المائدة :" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير " فأخبر تعالى عن كفرهم وجهلهم وبين أنه الخالق القادر على كل شيء وأنه رب كل شيء ومليكه وإلهه وقال في أواخرها :" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون "

حكم تعالى بكفرهم شرعا وقدرا ، فأخبر أن هذا صدر منهم مع أن الرسول إليهم هو عيسى ابن مريم ، وقد بين لهم أنه عبد مربوب مخلوق مصور في الرحم داع إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وتوعدهم على خلاف ذلك بالنار وعدم الفوز بدار القرار والخزء في الدار الآخرة والهوان والعار ، ولهذا قال :" إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار "

ثم قال : " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد " قال ابن جرير وغيره : المراد بذلك قولهم بالأقانيم الثلاثة : أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب والابن ، على اختلافهم في ذلك ما بين المليكية واليعقوبية والنسطورية ، عليهم لعائن الله كما سنبين كيفية اختلافهم في ذلك ومجامعهم الثلاثة في زمن قسطنطين ابن قسطس ، وذلك بعد المسيح بثلاثمائة سنة وقبل البعثة المحمدية بثلاثمائة سنة

ولهذا قال تعالى :" وما من إله إلا إله واحد " أي وما من إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا كفؤ له ولا صاحبة له ولا ولد ، ثم توعدهم وتهددهم فقال :" وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " ثم دعاهم برحمته ولطفه إلى التوبة والاستغفار من هذه الأمور الكبار والعظائم التي توجب النار فقال :" أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم "

ثم بين حال المسيح وأمه وأنه عبد رسول وأمه صديقة ، أي ليست بفاجرة كما يقول اليهود لعنهم الله ، وفيه دليل على أنها ليست بنبية كما زعمه طائفة من علمائنا وقوله :" كانا يأكلان الطعام " كناية عن خروجه منهما كما يخرج من غيرهما ، أي ومن كان بهذه المثابة كيف يكون إلهاً ! تعالى الله عن قولهم وجهلهم علواً كبيراً

وقال السدي وغيره ، المراد بقوله :" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " زعمهم في عيسى وأمه أنهما الإلهان مع الله ، يعني كما بين تعالى كفرهم في ذلك بقوله في آخر هذه السورة الكريمة :" وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "

يخبر تعالى أنه يسأل عيسى ابن مريم عليه السلام يوم القيامة على سبيل الإكرام له والتفريغ والتبويخ لعابديه ممن كذب عليه وافترى وزعم أنه ابن الله ، أو أنه الله أو أنه شريكه ، تعالى الله عما يقولون ، فيسأله وهو يعلم أنه لم يقع منه ما يسأله عنه ولكن لتوبيخ من كذب عليه فيقول له :" أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك " أي تعاليت أن يكون معك شريك " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " أي ليس هذا يستحقه أحد سواك " إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " وهذا تأدب عظيم في الخطاب والجواب " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " أي ما قلت غير ما أمرتني عليه حين أرسلتني إليهم وأنزلت علي الكتاب الذي كان يتلى عليهم ثم فسر ما قاله لهم بقوله :" أن اعبدوا الله ربي وربكم " أي خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني " أي رفعتني إليك حين أرادوا قتلي وصلبي فرحمتني وخلصتني منهم وألقيت شبهي على أحدهم حتى انتقموا منه كان ذلك " كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد "

ثم قال على وجه التفويض إلى الرب عز وجل والتبري من أهل النصرانية :" إن تعذبهم فإنهم عبادك " أي وهم يستحقون ذلك " إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وهذا التفويض والإسناد إلى المشيئة بالشرط لا يقتضي وقوع ذلك ، ولهذا قال :" فإنك أنت العزيز الحكيم " ولم يقل الغفور الرحيم

وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام بهذه الآية الكريمة ليلة حتى أصبح :" إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وقال :" إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً " وقال :" وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون * وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون "

وقال تعالى :" لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار * خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار "

وقال تعالى :" قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين * سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون "

وقال تعالى :" وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا "

وقال تعالى :" قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد "

وثبت في الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" يقول الله تعالى : شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، يزعم أن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم ين لي كفواً أحد "

وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولداً وهو يزرقهم ويعافيهم "

ولكن ثبت في الصحيح أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ :" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "

وهكذا قوله تعالى :" وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير "

وقال تعالى :" نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " وقال تعالى :" قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " وقال تعالى :" فمهل الكافرين أمهلهم رويدا "

ذكر منشأ عيسى ابن مريم عليهما السلام ومرباه في صغره وصباه

وبيان بدء الوحي إليه من الله تعالى

قد تقدم أنه ولد ببيت لحم قريبا من بيت المقدس

وزعم وهب بن منبه أنه ولد بمصر وأن مريم سافرت هي ويوسف بن يعقوب النجار وهي راكبة على حمار ليس بينهما وبين الإكاف شيء

وهذا لا يصح ، والحديث الذي تقدم ذكره دلياط على أن مولده كان ببيت لحم ، ذكرنا ، ومهما عارضه فباطل

وذكر وهب بن منبه أنه لما خرت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن الشياطين حارت في سبب ذلك حتى كشف لهم أبليس الكبير أمر عيسى فوجدوه في حجر أمه والملائكة محدقة به ، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء وأن ملك الفرس أشفق من ظهروه فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا : هذا لمولد عظيم في الأرض ، فبعث رسالة ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلى عيسى ، فلما قدموا الشام سألهم ملكهم عما أقدمهم فذكروا له ذلك ، فسأل عن ذلك الوقت فإذا قد ولد فيه عيسى ابن مريم ببيت المقدس واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد ، فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا رسل ملك الشام إنما جاءوا ليقتلوا ولدك فاحتملته فذهبت به إلى مصر ، فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتي عشرة سنة ، وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره فذكر منها الدهقان الذي نزلوا عنده افتقد مالاً من داره وكانت داره لا يسكنها إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج فلم يدر من أخذها ، وعز ذلك على مريم عليها السلام وشق على الناس وعلى رب المنزل وأعياهم أمرها ، فلما رأى عيسى عليه السلام ذلك عمد إلى رجل أعمى وآخر مقعد من جملة من هو منقطع إليه فقال للأعمى : احمل هذا المقعد وانهض به فقال : إني لا أستطيع ذلك فقال : بلى كما فعلت أنت وهو حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة في الدار فلما قال ذلك صدقاه فيما قال وأتيا بالمال فعظم عيسى في أعين الناس وهو صغير جداً

ومن ذلك أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده ، فلما اجتمع الناس وأطعمهم ثم أراد أن يسقيهم شراباً - يعني خمراً - كما كانوا يصنعون في ذلك الزمان لم يجد في جراره شيئاً فشق ذلك عليه ، فلما رأى عيسى ذلك منه قام فجعل يمر على تلك الجرار ويمر يده على أفواههم فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلأت شراباً من خيار الشراب ، فعتعجب الناس من ذلك جداً وعظموه وعرضوا عليه وعلى أمه مالاً جزيلاً فلم يقبلاه وارتحلا قاصدين بيت المقدس والله أعلم

وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا عثمان بن ساج وغيره ، عن موسى ابن وردان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، وعن مكحول عن أبي هريرة قال : إن عيسى ابن مريم أول ما أطلق الله لسانه بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل ، فمجد الله تمجيداً لم تسمع الآذان بمثله لم يدع شمساً ولا قمراً ولا جبلاً ولا نهراً ولا عيناً إلا ذكره في تمجيده فقال : اللهم أنت القريب في علوك ، المتعال في دنوك ، الرفيع على كل شيء من خلقك ، أنت الذي خلقت سبعاً في الهواء بكلماتك مستويات طباقاً أجبن وهي دخان من فرقك فأتين طائعات لأمرك ، فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك وجعلت فيهن نوراً على سواد الظلام وضياء من ضوء الشمس بالنهار ، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد ، فبعزتك يجلو ضوء ظلمتك وجعلت فيهن مصابيح يهتدي به في الظلمات الحيران ، فتباركت اللهم في مفطور سماواتك وفيما دحوت من أرضك دحوتها على الماء فمسكتها على تيار الموج الغامر ، فأذللتها إزلال التظاهر ، فذل لطاعتك صعبها واستحيا لأمرك أمرها وطبعت بعزتك أمواجها ، ففجرت فيها بعد البحور الأنهار ومن بعض الأنهار الجداول الصغار ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار ، ثم أخرجت منها الأنهار والأشجار والثمار ثم جعلت على ظهرها الجبال فوتدتها أوتاداً على ظهر الماء ، فأطاعت أطوادها وجلمودها

فتباركت اللهم ! فمن يبلغ بنعته نعتك أم من يبلغ صفتك ؟ تنشر السحاب وتفك الرقاب وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين ، لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن نستغفرك من كل ذنب ، لا إله إلا أنت سبحانك سترت السموات عن الناس ، لا إله إلا أنت سبحانك إنما يخشاك من عبادك الأكياس ، نشهد أنك لست بإله استحدثناك ، ولا رب يبيده ذكره ، ولا كان معك شركاء فندعوهم ونذرك ، ولا أعانك على خلفنا أحد فنشك فيك ، نشهد أنك أحد صمد لم تلد ولم تولد ، ولم يكن لك كفواً أحد

وقال إسحاق بن بشر ، عن جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلاً حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة والبيان فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول ، وكانوا يسمونه ابن البغية وذلك قوله تعالى :" وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما "

قال : فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب ، فجعل لا يعلمه المعلم شيئاً إلا بدره إليه ، فعلمه أبا جاد فقال عيسى ، ما أبو جاد ؟ فقال المعلم : لا أدري فقال عيسى : كيف تعلمني مالا تدري فقال المعلم : إذن فعلمني فقال له عيسى : فقم من مجلسك فقام فجلس عيسى مجلسه فقال : سلني ؟ فقال المعلم : فما أبو جاد ؟ فقال عيسى : الألف آلاء الله والباء بهاء الله والجيم بهجة الله وجماله فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد

ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فأجابه على كل كلمة بحديث طويل موضوع لا يسأل عنه ولا يتمادى !

وهكذا روى ابن عدي من حديث إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن مسعود ، عن مسعر بن كدام عن عطية ، عن أبي سعيد ، رفع الحديث في دخول عيسى إلى الكتاب وتعليمه المعلم معنى حروف أبي جاد وهو مطول لا يفرح به

ثم قال ابن عدي : وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد لا يرويه غير إسماعيل وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة قال : كان عبد الله بن عمر يقول : كان عيسى ابن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لأحدهم : تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك ؟ فيقول : نعم فيقول : خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها أطعميني ما خبأت لي فتقول : وأي شيء خبأت لك ؟ فيقول :كذا وكذا فتقول له : من أخبرك ؟ فيقول : عيسى ابن مريم ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم ، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم فسمع ضوضاءهم في بيت فسأل عنهم فقالوا : إنما هؤلاء قردة وخنازير فقال : الله كذلك فكانوا كذلك رواه ابن عساكر

وقال إسحاق بن بشر ، عن جويبر ، ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاماً من الله ، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى ، فهمت به بنو إسرائيل ، فخافت أمه عليه ، فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر ، فذلك قوله تعالى :" وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين "

وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين ، وهذه صفة غريبة الشكل ، وهي أنها ربوة وهو المكان المرتفع من الأرض الذي أعلاه مستو يقر عليه وارتفاعه متسع ، ومع علوه فيه عيون الماء المعين ، وهو الجاري السارح على وجه الأرض فقيل : المراد المكان الذي ولدت فيه المسيح وهو نخلة بيت المقدس ، ولهذا " ناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا " وهو النهر الصغير في قول جمهور السلف ، وعن ابن عباس بإسناد جيد أنهار دمشق فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق وقيل ذلك بمصر كما زعمه من زعمه من أهل الكتاب ومن تلقاه عنهم والله أعلم

وقيل هي الرملة

وقال إسحاق بنبشر : قال لنا إدريس عن جده وهب بن منبه ، قال : إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا قال فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء لهما إيليا وأقام بها حتى أحدث الله له الإنجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الأسقام والعلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم وتحدث الناس بقدومه وفزعوا لما كان يأتي من العجائب ، فجعلوا يعجبون منه فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره

قبورنا تبنا ونحن ماتبنا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-25-2008, 05:50 PM   #3
الشيخ عيسى
المشـــــرف العــــام
 
تاريخ التسجيل: Feb 2007
الدولة: المملكة العربية السعودية
المشاركات: 17,155
افتراضي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ونرحب بك ونسأل الله لكم الثبات والتوفيق .
أما الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
هذه القصة هي تفسير للآيات الواردة في سورة يوسف عليه السلام وقد ورد في تفسيرها في هذه قصصاً فمنه على التفسير المأثور ومنه على التفسير الإجتهادي التفسير بالرأي وإن كان هنالك بعض الملاحظات على السارح حيث إعتمد في بعض نصوص القصة على روايات أهل الكتاب .

الشيخ عيسى غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:02 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.0
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.